وشاية الدَّهّان

1

أو حين أعيد أدراجي في كل الليالي ـ ربما كسَلا أو بخلا ـ لأحلم الحلم ذاته: طريق رمادية اللون، مسطحة، تمتد كامتداد نهر بين جدارين أعلى من قامة رجل؛ ثمّ تتوقف وتنفتح على الفضاء. فأطل أنا سطح صخرة بركانية لا يجتاحها صوت ولا نور. ولكن تفاجئني رائحة خبيثة تنبعث من بئر، تصحبها نشوة ولا تفصلني عنها إلاّ ضريبة عبور… العبور إلى أين؟ لم يصبني الكلل من طرح هذا السؤال. غير أنّ ذلك الشغف لم يكن كافيا لإيقاظي، بل وفي جوّ من نشاط مزدوج كانت تجذبني أكثر فأكثر نعومة الشرشف. وفي الآن عينه لم أكن طليقا أو مرنا. فأغوص في الفضاء من مغارة إلى أخرى. وكان ما أستطيع التشبث به مجرد كبب حشيش طفيلي وشظايا. فأروح أنزل وأنزل حتى أصل أسفل القِمع، حيث تنبت متشابكة أشجار بين أنقاض مقلع حجري. (كلّ ما تمكنت الحلم به من تلك الأشجار أسماؤها لا غير، ولم أتعلّم، إلاّ لاحقا، وضع الأشكال في إطار أسمائها)

في نهاية المنحدر، قبالة الزقاق الذي منه ينطلق ويبدو بخطه الضاوي مبعث أمن لي ضد الخطر الذي تركت خلفي كرائحة الجو الجديدة والكريهة، أتردد هنيهة لتهدأ في حلقي نبضات المغامرة، وتألف عيناي المنظر السفلي للغاب وحركاته الطفولية. انهارت أيادي الريح، التي كانت قد مسكت بي مرات عديدة كأنها يدي متواطئ، كانت تجذبني تارة وتدفعني أخرى نحو المنحدر، وامتلأ الفضاء سكونا وصارت خطواتي ظلالا. لم يبق لي إلاّ التقدّم قليلا، وهاهم في مكانهم الدائم، رجال جالسون وكأنهم في مطهر مصطفون ومسندون الواحد إلى الآخر. يرتدون معاطف بيضاء عازلة للمياه، ويتجاذبون أطراف أصوات ومقاطع صوتية مبهمة تمضغها في خلد أفكاك هرمة. فأتقدّم نحوهم بروع لا تُخفّف من حدّته العادة، حزينين، كلّهم يرفعون جباههم، للإشارة بالمنع. بعيونهم المنطفئة يصرخون في وجهي: أغرُب عنّا. لم يكن أمرا سهلا انصياعي لهم. ولكن راكعا، على بعد أمتار من هناك، بعد ثني أصابعي خلف ظهري، كنت أتوقع أنّ أحدا منهم سيتحرك، أضعفهم جسما، وأكبرهم سنا، تجاعيده ثعابين بين أذني معطف، وبمجرد انحنائه لالتقاط حجر من سطح الأرض، ظهرت بسرعة، من وراء فتحة كفتحة ملقّن أو شرخ على الأرض، قفا العائدة من القبر، وكانت حتى اللحظة متخفية ، إيروديشي، أو سيستا أردويني، أو كما يُسمّونها.

“توقّفي”، أصرخ أنا “يا أمي، يا امرأة، يا حمامة”، بينما كنتُ أحسّ بأنامل النوم الغليظة التي كانت تضغط على جفوني بعنف ثمّ تبتعد داخل كرية من الصابون وسط قطرة ضوء خاثرة كمرهم العيون. فقط في تلك اللحظة، بينما كنت أفتح عينـيّ، فهمتُ أنني مرّة أخرى لعبت لعبة الموت، وأنني مرة أخرى نسيت أو أخطأت عمدا كلمة السرّ التي كنت لها أحتاج

كان فعلا قد أصبح مجرد لعبة من ألعاب القلعة، قبول الموت أو رفضه. في تلك الصائفة من سنة ستّ وأربعين في الغرفة سبعة مكرّر، حيث وصلت من مكان بعيد جدّا، بإحدى رئتـيّ مشوهة من الجوع والبرد، بعد أن سحبت خلفي من محطة لأخرى، والأصابع متشبثة بالمقبض الحديدي لعلبة عسكرية، نعش صغير من التنّوب لعقدي الثاني بمهمازي عقبَيّ مبتورتين. لم تكن لدي أمتعة غيرها ولم تكن تحتوى على أشياء كثيرة: حفنة ذكريات يابسة، ومسدس بدون ذخيرة بين كتابين، ورسائل من امرأة كان تراب الآخرة قد شرع في هضمها بين صخرة بيسمانتوفا وجبل كوسنا، تحت أعشاب قيل لي إنّها أزهار الحوض. بإكليل من الأزهار روعة في الازدهار وُعِدتُ حال انتهاء مدة إسعافي وأكون قد تعبتُ، كمجموعة من المرتزقة في حالة دفاع، من جمع أحاسيسي المبعثرة التي بها كنت أعيش. لم يكن قد بقي الكثير: فقد اختفت الفضيحة وعدم التصديق اللذان سيطرا في البداية، حين اقتنعتْ كلّ أليافي بأنّها خالدة وترفض نسيان ذلك الاقتناع. ولكن تبقى الضغينة على قيد الحياة، حتى وإن كان ذلك عبارة عن رحمة مهذارة تجاه نفسي. وجاء ملك أجنبي يسكن أضلعي، مينوطوراً مجهولا. فكنت أدين له يوما بعد يوم بمساهمة قدرها رطل من حياتي. وعبثا حاول القلب، الذي كان لا يملك أكثر من حاسّة النظر، بقوته الثمينة في ترتيب الأشياء، لاهثا كان يردد أنني أنا الذي اخترت ذلك الألم، وبشرف سام، منظفا وشافيا بدمي الدم الذي كان يوسخ الأشياء، ومضحيا بدل الجميع لترتيب فوضى العالم. لا فائدة منه، ولم تدعُ الحاجة إليه يوما، إلاّ للمواساة وتكريم مكتوب ليس لنا اختيار فيه إلاّ المعاناة. وهكذا، رغم تقبلي المسيحي للخطأ، افتخرت بكل سرور على صفحات كراسة في طريقها إلى النقع، من خلال أبيات، ودون توقف، في إحدى ثنايا الذهن، لم أتوقف من اعتبار نفسي رهينة مؤقتة في قبضة مجلس أعلى، فأروح أتجسس خفية لعلّني أعثر على منفذ بقي لي، فأتظاهر رافعا كلا ذراعي. عاجلا سيأتون لطعني برمح تحت المشنقة، أقزام المشاة والعرق يغمرهم، إنهم ملزمون بالقيام بذلك. وفي تلك الأثناء، في كونكا دورو، كان رائعا قبول طلوع النهار والتحريض على العيش، من خلال تنافس مئة ألف ديك بصياحها كلّ صباح. كلّ تأجيل كان يُوظَّف دائما لإيجاد الحنان لأجل ألفة النهاية القريبة، إلى حدّ تشبيهها تقريبا بمراوغات العشق: الإغراءات ذاتها، ومحاولات النفي ودهاء عيني وتعب فتاة قبل استسلامها في الظلام. وهكذا، لم يمرّ يوم ولا ليلة في القلعة إلاّ والموت يتنفس بجنبي معلنا حضوره الفعال والمحتوم، وأراه في شريط ضوئي أو في كوم تراب، أحيانا متزيّناً كملاك وأحيانا أخرى كسجّان. كان هو المزولة التي ترسم بأرقي على السقف الرغبة من خلال حركات ومشاهد صامتة. هو الفخّ الذي كان يعض عقبي، وبحر الأوراق التي حولتها الشمس إلى قطع ذهبية مشعة. هو فتحة مدفع قصير، وخلود السكون ، وجدران البطن الأربعة، حيث لا أحد يبحث عني

في حالة استعراضية، كنت أتمايل بين الفخر والفزع. مرّت الأسابيع الواحد تلو الآخر دون تعلّم لا اسم مكان ولا اسم إنسان، ولم أكن أرى إلاّ وجها واحدا. الوجه ذاته يظهر أمامي: كمَن يمشي في رواق وخلفه مصباح، وفي آخر الرواق مرآة. آه، لو استطعتُ الصبر هكذا إلى النهاية، كنت قد تجنبت التناحر ليس مع لعنتي وخلاصي فحسب، بل وحتى مع لعنة وخلاص كلّ الآخرين: الطبيب، والراهب، والفتاة

 

 

2 Risposte a “وشاية الدَّهّان”

I commenti sono chiusi.